فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي رواية لما وصلت إلى السماء السابعة قال لي جبريل: رويدًا أي: قف قليلًا فإن ربك يصلي قلت: أهو يصلي؟ قال: نعم قلت: وما يقول؟ قال: «سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبقت رحمتي غضبي».
وفي التأويلات النجمية: يشير إلى أنكم إن تذكروني بذكر محدث فإني قد صليت عليكم بصلاة قديمة لا أول لها ولا آخر وإنكم لولا صلاتي عليكم لما وفقتم لذكري كما أن محبتي لو لم تكن سابقة على محبتكم لما هديتم إلى محبتي وأما صلاة الملائكة فإنما هي دعاء لكم على أنهم وجدوا رتبة الموافقة مع الله في الصلاة عليكم ببركتكم ولولا استحقاقكم لصلاة الله عليكم لما وجدوا هذه الرتبة الشريفة.
وفي عرائس البقلى صلوات الله اختياره للعبد في الأزل بمعرفته ومحبته فإذا خص وجعل زلاته مغفورة وجعل خواص ملائكته مستغفرين له لئلا يحتاج إلى الاستغفار بنفسه لاشتغاله بالله وبمحبته.
قال أبو بكر بن طاهر: صلوات الله على عبده أن يزينه بأنوار الإيمان ويحليه بحلية التوفيق ويتوجه بتاج الصدق ويسقط عن نفسه الأهواء المضلة والإرادات الباطلة ويجعل له الرضى بالمقدور، قال الحافظ:
رضا بداده بده وزجبين كره بكشاى كه برمن وتو در اختيار نكشا دست.
{لِيُخْرِجَكُم} الله تعالى بتلك الصلاة والعناية وإنما لم يقل ليخرجاكم لئلا يكون للملائكة منة عليهم بالإخراج ولأنهم لا يقدرون على ذلك لأن الله هو الهادي في الحقيقة لا غير {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} الظلمة عدم النور ويعبر بها عن الجهل والشرك والفسق ونحوها كما يعبر بالنور عن أضدادها أي: من ظلمات الجهل والشرك والمعصية والشك والضلالة والبشرية وصفاتها والخلقية الروحانية إلى نور العلم والتوحيد والطاعة واليقين والهدي والروحانية وصفاتها والربوبية بجذبات تجلي ذاته وصفاته.
والمعنى برحمة الله وبسبب دعاء الملائكة فزتم بالمقصود ونلتم الشهود ونورتم بنور الشريعة وتحققتم بسر الحقيقة.
وقال الكاشفي: مراد از اخراج ادامت واستقامت است بر خروج ه دروقت صلاة خدا وملائكه بر ايشان در ظلمات نبوده اند {وَكَانَ} في الأزل قبل إيجاد الملائكة المقربين {بِالْمُؤْمِنِينَ} بكافتهم قبل وجوداتهم العينية {رَّحِيمًا} ولذلك فعل بهم ما فعل من الاعتناء بصلاحهم بالذات وبواسطة الملائكة فلا تتغير رحمته يتغير أحوال من سعد في الأزل.
ولما بين عنايته في الأولى وهي هدايته إلى الطاعة ونحوها بين عنايته في الآخرة فقال: {تَحِيَّتُهُمْ} من إضافة المصدر إلى المفعول أي: ما يحيون به.
والتحية الدعاء بالتعمير بأن يقال: حياك الله أي: جعل لك حياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول الحياة أو سبب حياة إما لدنيا وإما لآخرة {يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} يوم لقائه تعالى عند الموت أو عند البعث من القبور أو عند دخول الجنة {سَلَامٌ} تسليم عليهم من الله تعظيمًا لهم:
أومن الملائكة بشارة لهم بالجنة أو تكرمة لهم كما في قوله تعالى: {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23- 24] أو إخبار بالسلامة من كل مكروه وآفة وشدة.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي عليه السلام: «إذا جاء ملك الموت إلى وليّ الله سلم عليه وسلامه عليه أن يقول: السلام عليك يا ولي الله قم فاخرج من دارك التي خربتها إلى دارك التي عمرتها فإذا لم يكن وليًا قال له: قم فأخرج من دارك التي عمرتها إلى دارك التي خربتها».
يقول الفقير: عمارة الدنيا بزرع الحبوب وتكثير القوت وكري الأنهار وغرس الأشجار ورفع أبنية الدور وتزيين القصور وعمارة الآخرة بالأذكار والأعمال والأخلاق والأحوال.
وفي الآية إشارة إلى أن التحية إذا قرنت بالرؤية واللقاء إذا قرن بالتحية لا يكونان إلا بمعنى رؤية البصر والتحية خطاب يفاتح به الملوك فبهذا أخبر عن علو شأنهم ورفعة درجتهم وأنهم قد سلموا من آفات القطيعة بدوام الوصلة.
قال ابن عطاء: أعظم عطية المؤمنين في الجنة سلام الله عليهم من غير واسطة.
{وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} ثوابًا حسنًا دائمًا وهو نعيم الجنة وهو بيان لآثار رحمته الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك وإيثار الجملة الفعلية دون وأجرهم أجر كريم ونحوه لمراعاة الفواصل.
وفيه إشارة إلى سبق العناية الأزلية في حقهم لأن في الإعداد تعريفًا بالإحسان السابق والأجر الكريم ما يكون سابقًا على العمل بل يكون العمل من نتائج الكرم.
ثم هذه الآية من أكبر نعم الله على هذه الأمة ومن أدل دليل على أفضليتها على سائر الأمم ومن جملة ما أوحي إليه عليه السلام ليلة المعراج «أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك» فإذا كانوا أقدم في الدخول للتعظيم كانوا أفضل وأكثر في الأجر الكريم ثم إن فقراء هذه الأمة أكبر شأنًا من أغنيائهم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعث الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم رسولًا فقال: يا رسول الله إني رسول الفقراء إليك فقال: «مرحبًا بك وبمن جئت من عندهم جئت من عند قوم أحبهم» فقال: يا رسول الله إن الفقراء يقولون لك: إن الأغنياء ذهبوا بالخير كله هم يحجون ولا نقدر عليه ويتصدقون ولا نقدر عليه ويعتقون ولا نقدر عليه وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخرًا لهم فقال عليه السلام: «بلغ الفقراء عني أن لمن صبر واحتسب منهم ثلاث خصال ليس للأغنياء منها شيء أما الخصلة الأولى فإن في الجنة غرفًا من ياقوت أحمر ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الدنيا إلى النجوم لا يدخلها إلا نبي فقير أو شهيد فقير أو مؤمن فقير والخصلة الثانية: يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام والخصلة الثالثة: إذا قال الفقير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر مخلصًا وقال الغني مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير في فضله وتضاعف الثواب وإن أنفق الغني معها عشرة آلاف درهم وكذلك أعمال البر كلها فرجع الرسول إليهم وأخبرهم بذلك فقالوا: رضينا يا رب رضينا ذكره اليافعي في»روض الرياحين. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قال تعالى: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}.
هو تقرير لهذه الحقيقة الواقعة، التي تدفع كل باطل، وتفضح كل زيف، وهى أن محمدا- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يكن أبا لأحد، أبوة نسب.. فقد كان له صلوات اللّه وسلامه عليه- أولاد، ولكن هؤلاء الأولاد ماتوا صغارا، ولم يبلغ أحد منهم مبلغ الرجال وزيد بن حارثة هذا، الذي بلغ مبلغ الرجال، وتزوج، وهو في هذا النسب الذي أضيف به إلى النبي ابنا له- زيد هذا ليس ابنا لمحمد: {ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ} تلك حقيقة واقعة لا يمارى فيها أحد، أما هذا النسب الذي أضيف إليه زيد، فهو نسب مصطنع، فلا معتبر له، ولا نظر إليه..!.
وهكذا الشأن في كل نسب جاء على تلك الصف.
أما أبوة النبي للمؤمنين، فهى أبوة روحية، يدخل فيها كل مؤمن ومؤمن.
وقال تعالى: {وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} هو استدراك للنفى الذي شمل عموم نسبة الأبوة لأى رجل من الرجال إلى «محمد».. وليس معنى هذا قطع الصلة بين «محمد» وبين النا.
فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- وإن انقطعت أبوة النسب بينه وبين أي أحد من الرجال، فإن المؤمنين جميعا ينتسبون إليه نسبا أولى وأقرب من هذا النسب، بحكم أنه رسول اللّه فيهم، ومبلّغ رسالة اللّه إليهم.. فهو بهذه الصفة أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، وهذا أعظم وأشمل مما تعطيه أبوة النس.
وفي قال تعالى: {وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} إشارة إلى أنه صلوات اللّه وسلامه عليه أب لكل مؤمن ومؤمنة، من كل دين، حيث أنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- وارث النبيين جميعا، والمهيمن برسالته على رسالات الرسل كلهم، فلا رسول بعده إلى يوم الدين.. لقد ختمت به- صلوات اللّه وسلامه عليه- رسالات السماء، وأضيفت شعاعاتها كلها إلى شمس شريعته، فأصبحت تلك الشعاعات، مضمونا من مضامينها، وقبسا من أقباسه.
فلا هدى بعد هذا إلا من هداها، ولا نورا إلا من نورها.. {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}.
وبهذه الآية تختم قصة زواج النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، من زينب بنت جحش، مطلقة مولاه، ومتبناه، زيد بن حارثة.. وقد شغب عليها المشاغبون، وبنوا حولها من أوهامهم وضلالاتهم، أساطير من واردات الكذب والكيد للإسلام، ولنبىّ الإسلام، حتى لقد صوروا النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- رجلا استبدت به الشهوة، حتى لقد كاد يتخلى عن رسالته التي أقامه اللّه عليها، ويشغل نفسه بالجري وراء إشباع شهوات.
وآيات القرآن الكريم- لمن يؤمنون بأنه من عند اللّه- صريحة في أن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- كان ممتحنا من ربه بهذا الزواج الذي لم يكن يدور في خاطره في أية لحظة من لحظات حياته، وذلك ليقضى بهذا الزواج على تلك العادة المتمكنة في المجتمع العربي، والتي دخلت الإسلام مع المسلمين بهذا السلطان المتمكن، الذي كان لها على النفو.
فإذا نظرنا إلى ماوراء آيات القرآن الكريم، نجد أن زينب بنت جحش هذه لم تكن غريبة عن النبي، بل كانت ابنة عمته، وكانت تحت نظره من مولدها إلى أن خطبها هو- صلوات اللّه وسلامه عليه- لزيد بن حارث.
فماذا كان يمنع النبي من أن يتزوجها لو أنها وقعت من قلبه موقعا؟
ولو أنه كان للنبى أية رغبة فيها أكان يخطبها ويزوجها لمتبناه، فتحرم عليه إلى الأبد، كما كان هو الحال في زوجات الأبناء الأدعياء قبل أن ينزل القرآن بما يقضى على التبنىّ وأحكامه! أذلك مما يستقيم أبدا مع عقل أو منطق؟
{ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ}.!.
قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} مناسبة هذه الآية لما قبلها من آيات، هي أن الآيات السابقة عليها تضمنت حكما من الأحكام، كان مبعث ظنون، ومثار شغب عند المنافقين والذين في قلوبهم مرض وليس يحمى المؤمنين من غبار هذه الظنون، ودخان هذا الشغب، إلا أن يعتصموا باللّه، وأن يذكروا جلاله وعظمته، وأن يستحضروا علمه وقدرته، فذلك هو الذي يحفظ عليهم إيمانهم، ويدفع عنهم غواشى الشكوك والريب، التي يسوقها إليهم الكافرون والمنافقو.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}.
هو إعراء للمؤمنين بذكر اللّه، وتسبيحه بكرة، أي صباحا، وأصيلا، أي مساء، كما يقول سبحانه: {فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [17: الروم].
فاللّه سبحانه وتعالى إنما يذكر بالرحمة والرضوان، عباده الذين يذكرونه، ويصلى على من يصلون له ويسبحونه، وفي هذا يقول اللّه تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [152: البقرة] والمراد بالذكر هنا ذكر الرحمة والإحسان.
وصلاة اللّه على المؤمنين هي رحمته لهم، وإحسانه إليهم، ورضاه عنه.
وصلاة الملائكة، هي الاستغفار للمؤمنين، كما يقول سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ} [7: غافر].
وقال تعالى: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} إشارة إلى أن ذكر المؤمن ربه وتسبيحه بحمده، يدنيه من ربه، ويقربه من منازل رحمته، ويصله بعباده المقربين من ملائكته، وبهذا يستقيم على طريق اللّه، ويخرج من عالم الظلام والضلال، إلى عالم النور والهد.
وفي قال تعالى: {وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} مزيد فضل وعناية من اللّه سبحانه وتعالى بالمؤمنين، وأنهم هم الذين ينالون رحمة اللّه، ويختصون بفضله وإحسان.
قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا}.
هو بيان لرحمة اللّه بالمؤمنين وإحسانه إليهم، وأنهم حين يلقون اللّه يوم القيامة، تلقاهم ملائكته لقاء كريما، بهذه البشرى المسعدة لهم، حيث يلقونهم بهذه التحية: سلام عليكم. فتذهب عنهم تلك التحية، هذه الوحشة، ويزايلهم هذا الخوف، في هذا الموطن الجديد، الذي حلّوا به بعد مفارقة الحياة الدنيا.
ويوم لقاء اللّه هنا، هو اليوم الذي يفارق فيه الإنسان دنياه.. حيث يزايل آخر منزل له من منازل الدنيا، ويحل في أول منزل من منازل الآخر.
وهذا ما يشير إليه قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [32: النحل].
وقال تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} هو بيان لما يلقى المؤمنون في الآخرة من جزاء كريم من اللّ.
وفي إعداد هذا الأجر، إشارة إلى أنه أجر عظيم، قد هيىء لهم، ورصد للقائهم من قبل أن يلقوه، وفي هذا مزيد اعتناء بهم، بهذا الاستعداد للقائهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}.
استئناف للتصريح بإبطال أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض وما يلقيه اليهود في نفوسهم من الشك.
وهو ناظر إلى قوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} [الأحزاب: 4].
والغرض من هذا العموم قطعُ توهّم أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم ولد من الرجال تجري عليه أحكام البنوّة حتى لا يتطرق الإِرجاف والاختلاق إلى من يتزوجهن من أيامى المسلمين أصحابِه مثل أمِّ سلمة وحفصة.
و{من رجالكم} وصف ل {أحد} وهو احتراس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بنات.
والمقصود: نفي أن يكون أبا لأحد من الرجال في حين نزول الآية لأنه كان وُلد له أولادٌ أو وَلَدَاننِ بمكة من خديجة وهم الطيّب والطاهر أو هما اسمان لواحد والقاسم، ووُلد له إبراهيم بالمدينة من مارية القبطية، وكلهم ماتوا صبيانًا ولم يكن منهم موجود حين نزول الآية.
والمنفي هو وصف الأبوّة المباشرة لأنها الغرض الذي سيق الكلام لأجله والذي وَهِم فيه من وَهِم فلا التفات إلى كونه جَدًّا للحسن والحسين ومحسن أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنها إذ ليس ذلك بمقصود، ولا يخطر ببال أحد نفي أبوته لهم بمعنى الأبوة العليا، أو المراد أبوّة الصلب دون أبوة الرّحم.
وإضافة رجال إلى ضمير المخاطبين والعدول عن تعريفه باللام لقصد توجيه الخطاب إلى الخائضين في قضية تزوج زينب إخراجًا للكلام في صيغة التغليط والتغليظ.
وأما توجيهه بأنه كالاحتراز عن أحفاده وأنه قال: {من رجالكم} وأما الأحفاد فهم من رجاله ففيه سماجة وهو أن يكون في الكلام توجيه بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم بريء من المخاطبين أعني المنافقين وليس بينه وبينهم الصلة الشبيهة بصلة الأبوة الثابتة بطريقة لحن الخطاب من قوله تعالى: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] كما تقدم.